سورة الرعد - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)}
قوله تعالى: {وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} {ما} زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: {لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [الرعد: 34] وقوله: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ} [الرعد: 31] أي إن أريناك بعض ما وعدناهم {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} فليس عليك إلا البلاغ، أي التبليغ، {وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} أي الجزاء والعقوبة. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} يعني، أهل مكة، {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} أي نقصدها. {نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} اختلف فيه، فقال ابن عباس ومجاهد: {نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف، وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم، ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز، إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى.
وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين، وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها، وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبد البر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا، تلقاه أهل العلم بالقبول. قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، {نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} قال: موت الفقهاء والعلماء، ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شي، وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم من قول ابن عباس.
وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك.
وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم، والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها.
وقيل: نقصها بجور ولاتها. قلت: وهذا صحيح معنى، فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغيير. {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ} أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن.
وقيل: لا يحتاج في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان، حسب ما تقدم في البقرة بيانه.


{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)}
قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه.
وقيل: فلله خير المكر، أي يجازيهم به. {يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير وشر، فيجازي عليه. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} كذا قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون {الكفار}9 على الجمع.
وقيل: عني به أبو جهل. {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة، وهذا تهديد ووعيد. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} قال قتادة: هم مشركو العرب، أي لست بنبي ولا رسول، وإنما أنت متقول، أي لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك. {قُلْ كَفى بِاللَّهِ} أي قل لهم يا محمد: {كَفى بِاللَّهِ} أي كفى الله {شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بصدقي وكذبكم. {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} وهذا احتجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب- من آمن منهم- في التفاسير.
وقيل: كانت شهادتهم قاطعة لقول الخصوم، وهم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري والنجاشي وأصحابه، قاله قتادة وسعيد بن جبير.
وروى الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أريد قتل عثمان جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك، قال: أخرج إلى الناس فأطردهم عني، فإنك خارج خير لي من داخل، قال فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس! إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله، ونزلت في آيات من كتاب الله، فنزلت في. {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] ونزلت في. {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} الحديث. وقد كتبناه بكماله في كتاب التذكرة.
وقال فيه أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وكان اسمه في الجاهلية حصين فسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله.
وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}؟ قال: هو عبد الله بن سلام. قلت: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟! ذكره الثعلبي.
وقال القشيري: وقال ابن جبير السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة، فلا يجوز أن تحمل هذه الآية على ابن سلام، فمن عنده علم الكتاب جبريل، وهو قول ابن عباس.
وقال الحسن ومجاهد والضحاك: هو الله تعالى، وكانوا يقرءون {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} وينكرون على من يقول: هو عبد الله بن سلام وسلمان، لأنهم يرون أن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} وإن كان في الرواية ضعف، وروى ذلك سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى محبوب عن إسماعيل بن محمد اليماني أنه قرأ كذلك- {ومن عنده} بكسر الميم والعين والدال {علم الكتاب} بضم العين ورفع الكتاب.
وقال عبد الله بن عطاء: قلت، لأبي جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك قال محمد ابن الحنفية.
وقيل: جميع المؤمنين، والله أعلم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أما من قال إنه علي فعول على أحد وجهين: إما لأنه عنده أعلم المؤمنين وليس كذلك، بل أبو بكر وعمر وعثمان أعلم منه. ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وهو حديث باطل، النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدينة علم وأصحابه أبوابها، فمنهم الباب المنفسح، ومنهم المتوسط، على قدر منازلهم في العلوم. وأما من قال إنهم جميع المؤمنين فصدق، لأن كل مؤمن يعلم الكتاب، ويدرك وجه إعجازه، ويشهد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقه. قلت: فالكتاب على هذا هو القرآن. وأما من قال هو عبد الله بن سلام فعول على حديث الترمذي، وليس يمتنع أن ينزل في عبد الله بن سلام شيئا ويتناول جميع المؤمنين لفظا، ويعضده من النظام أن قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني قريشا، فالذين عندهم علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى، الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقرب من عبدة الأوثان. قال النحاس: وقول من قال هو عبد الله بن سلام وغيره يحتمل أيضا، لأن البراهين إذا صحت وعرفها من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن كان أمرا مؤكدا، والله أعلم بحقيقة ذلك.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10